دانيال ريفيه: رحلة في دهاليز تاريخ المغرب بعين فرنسية

بين جدران المعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب، حيث تهمس الحجارة بحكايات الأدارسة والمرابطين والعلويين، احتفت الرباط اليوم الاثنين بصوتٍ فرنسيٍّ يدقُّ أبواب الذاكرة المغربية بعمقٍ وفلسفة. دانيال ريفيه، المؤرخ الفرنسي العضو في أكاديمية المملكة، لم يكتفِ بسرد التاريخ، بل أطلق شرارةَ حوارٍ جديدٍ مع الزمن، في محاضرةٍ حملت عنوان “العودة إلى تاريخ المغرب”، وكأنما أراد أن يقول: “التاريخ ليس ماضياً يُروى، بل حاضرٌ يُعاد تخليقه”.
الكتاب الذي هزَّ أركان القراءات التقليدية
تحدّث ريفيه عن مؤلَّفه “تاريخ المغرب” (2010) بلهجةِ مَنْ اكتشف خريطةً ضائعةً للإمبراطوريات. لم يكن كتاباً عادياً، بل زلزالاً هدمَ التفسيرات الأحادية التي حبست التاريخَ المغربيَّ بين جدران السلطة أو الأيديولوجيا. قدم ريفيه رؤيةً تزاوج بين الاجتماعي والسياسي، كأنه ينسج بساطاً من حريرٍ يجمعُ بين دماء المقاومين في الجبال وأنفاس الملوك في القصور. قال رحال بوبريك، مدير المعهد، مُرحِّباً بالضيف: “إنه قامةٌ فكريةٌ بدأ مسيرته بين صفوف طلبة المغرب، فصار جسراً بين ضفتي المتوسط”.
تاريخٌ يكتبه من عاش تفاصيله
لم يكن ريفيه غريباً عن دهاليز التاريخ المغربي. فقد بدأ مشواره بأطروحةٍ عن الجنرال ليوطي، مهندس الاستعمار الفرنسي، وكأنه يفتح ملفاً أسودَ بيدٍ محايدة. لكن كتابه “تاريخ المغرب” كان التتويج. كتابٌ امتد من عهد الأدارسة، حيث انبثقت أولى شعلات الدولة، إلى عهد جلالة الملك محمد السادس، بسلاسةِ راوٍ يمسك بخيط الزمن دون أن ينقطع. لفت بوبريك إلى أن ريفيه كتبه بلغةٍ سرديةٍ تشبه الحكايات الشعبية، قبل أن ينتقل إلى العربية في 2024، وكأنه يردُّ الدينَ للثقافة التي استلهم منها.
ما غاب عن الكتاب: الجنوب المغربي والمملكة الأطلسية… أسئلة تنتظر إجابات
لكن ريفيه، بروح الباحث الذي لا يخشى نقد ذاته، اعترف بأن “ثمة فصولاً ناقصةً في الكتاب”. تحدث عن الجنوب المغربي، تلك الجغرافيا المترامية التي ظلَّت خارج “دار المخزن”، وكأنها ظلٌّ طويلٌ لم تُكتب حكايته بعد. كما أقرَّ بإغفاله “المملكة الأطلسية”، تلك الحضارة التي مزجت بين الأمازيغية والإسلامية في قمم الجبال، واصفاً إياها بـ”الصفحة البيضاء التي تنتظر مؤرخاً شجاعاً”.
وصية ريفيه: ادرسوا التاريخ حيث يُولد
ختم المؤرخ الفرنسي محاضرته بوصيةٍ كأنها صرخةٌ في وجه الأكاديميات الباريسية: “لا تُكتبُ تاريخ المغرب من مكاتب باريس المُغلقة، بل هنا، بين رمال الصحراء ونسيم المحيط”. ودعا إلى “تحديث الكتاب” بعد 14 عاماً من صدوره، مؤكداً أن التاريخ كالنهر، لا يتوقف عن الجريان، وأن كل جيلٍ يحملُ ريشته لإعادة رسم الأمس.
هكذا، تحوَّلت محاضرة ريفيه إلى أكثر من حدثٍ أكاديمي. كانت إعلاناً عن حربٍ على النسيان، ودعوةً لاستعادة التاريخ من برجِه العاجي، ليكون سِفراً مفتوحاً يقرأه الجميع، كقصيدةٍ تُغنّى على أنغام العودة إلى الذات.
تعليقات 0